مفهوم العنف - مجزوءة السياسة

 مفهوم العنف - مجزوءة السياسة

مما لا شك فيه أن هناك ارتباط بين العنف والسياسية، وذلك من جهتين، من جهة أن السياسية هي تدبير الشأن العام بشكل من أجل القضاء على العنف وتحقيق السلم والأمن، ومن جهة أن الممارسة السياسية كثيرا ما استندت إلى العنف. من هنا يظهر الطابع الإشكالي للعلاقة بين السياسية والعنف.

والذي يجعل العنف موضوعا للفلسفة، هو ملازمته للتاريخ البشري، إذ نلاحظ أن كل لحظات التاريخ كانت شاهدة على حضور هذه الظاهرة، كما أن العنف لازال حاضرا إلى اليوم. ومن ثمة فالبحث في موضوع العنف، هو بحث في الإنسان، وفي طبيعته، وتفاعله سواء مع ذاته أو مع الآخر أو مع الوجود.

ولتسليط الضوء على هذا الموضوع الشائك والمعقد والمثير، يمكن الوقوف أولا عند أشكال وتمظهرات العنف، وإن كان العنف يتخذ شكلا ماديا وظاهريا فقط، أم أن له أشكالا أخرى. والوقوف ثانيا عند العنف في التاريخ، والبحث إن كان العنف ظاهرة ملازمة للإنسان ولتاريخه، أم أنه مجرد ظاهرة عابرة ستنتهي بانتهاء أسبابه. والوقوف ثالثا عن مشروعية العنف، والبحث في إمكانية تبرير وشرعنة العنف.

تعريف العنف:

العنف لغة ضد الرفق ومرادف للقوة والقسوة، ومن الناحية الأخلاقية فالعنف يعني كل ضرر يلحق الشخص، سواء كان الشخص قد ألحقه بنفسه أو بغيره أو ألحقه الغير به. أما من الناحية القانونية فيعنى استخدام القوة استخدام  غير مشروع، أي غير مطابق للقانون

المحور الأول: أشكال العنف

مما لا شك فيه أن العنف يعتبر واقعة تاريخية لا جدال فيها، واقعة لازمت المجتمعات الإنسانية، ولذلك كان لابد لأي بحث في قضية السياسة أن يبحث في مفهوم العنف أيضا. فالسياسة من جهة تستهدف القضاء على العنف، لكنها من جهة أخرى تستخدمه. ولذك لابد من تسليط ضوء السؤال على العنف، ومقاربته فلسفيا من خلال البحث فيما يثيره من إشكالات ومفارقات، ولعل أبرز ما يمكن أن نتساءل عنف بخصوص العنف؛ هو أشكاله وتمظهراته وتجلياته، وأيضا إمكانية من عدم إمكانية حصره في مظاهره المثيرة كالحروب.

فما هي أشكال العنف و ما هي مظاهره  وتجلياته؟ وهل يمكن حصر العنف في مظاهره المثيرة كالحروب، أم أنه قد يوجد على نحو خفي وكامن؟ بمعنى آخر هي يتخذ العنف شكلا ماديا فقط، أم أنه يتخذ شكلا رمزيا ومعنويا؟

العنف المادي : موقف إيف ميشو

يرى الفيلسوف الفرنسي "إيف ميشو" أن العنف سمة أساسية من سمات القرن العشرين، وهو القرن الذي عرف عدة أشكال للعنف، فمنها ما هو خفي وغير ظاهر كنقص التغذية، ، ومنها ما هو أكثر ضراوة كالإعدامات. إضافة إلى ذلك شهدت تلك الفترة شهدت حربان عالميتان انتهت إحداهما بما يشبه القيامة النووية (هيروشيما)، والعديد من الإبادات، وأشكال مختلفة من العنصرية والاضطهاد ، ومن عدم التسامح ، والحروب الاستعمارية وحروب التحرير والأنظمة العسكرية والبوليسية، ومعسكرات الاعتقال والتجميع وإعادة التربية، وأخيرا الإجرام.

ويؤكد إيف ميشو على ارتباط العنف بالتكنولوجيا والإعلام، فالتكنولوجيا ساهمت في تطوير وسائل العنف، والحديث هنا عن الأسلحة بالخصوص. أما بخصوص علاقة الإعلام بالعنف، فقد أكد إيف ميشو على ارتباط العنف بوسائل الإعلام التي تنشره وتستعمله كما تشاء أو تصمت عنه.

العنف الرمزي: بيير بورديوه

يعرف السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو العنف الرمزي في كتابه الهيمنة الذكورية بقوله: "العنف الرمزي، هو عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرق والوسائل الرمزية الخالصة أي عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات". ومنه نستنتج أن العنف الرمزي ذو طابع خفي وكامن.

 إضافة ذلك، يرى  بيير بورديو أن العنف الرمزي يمكنن أن يحقق نتائج أحسن مقارنة بما العنف السياسي والبوليسي... وهذا هو الأمر الذي لم تنتبه له الفلسفة الماركسية. فالعنف عنف لطيف وعذب، كما أنه يمارس على الفاعل الاجتماعي  بموافقته وتواطؤه.

 ومن بين أشكال العنف الرمزي، العنف المدرسي، حيث لاحظ بيير بورديو أن الطلاب لا ينتمون إلى نفس الوسط الثقافي، لكنهم يدرسون بنفس بالمؤسسات ويتلقون نفس التعليم، وهذا سيؤدي إلى تفوق المنحدرين من العائلات المحظوظة، وهذا نوع من لا تكافؤ الفرص الذي سيؤدي إلى إعادة إنتاج نفس الوضع القائم.

خلاصة تركيبية:

هكذا يتضح لنا أن أشكال العنف تتعدد وتختلف، فقد يتخذ العنف شكالا ماديا فيزيائيا مثل الحروب والإجرام والإعدام... وقد يتخذ شكل خفيا مثل المجاعة ونفص التغذية، وقد يتخذ شكل رمزيا مثل لا تكافؤ الفرص داخل الحقل التعليمي أو العنف الكامن في اللغة والخطابات... لكن لا يمكن إلا أن نؤكد على ضرورة نبذ العنف والعمل على محاربته والقضاء عليه، كيفما كان شكله وكان من كان مصدره.

المحور الثاني: العنف في التاريخ

يشكل العنف واحدة من الظواهر التي أثارت اهتمام مجموعة من الفلاسفة والمفكرين، نظرا لطابعها الإشكالي ونظرا لما تطرحه هذه الظاهرة من تساؤلات هي في عمقها تساؤلات حول الإنسان وطبيعته وحقيقته. فقد اعتاد الإنسان على النظر إلى نفسه باعتباره كائنا عاقلا وكائنا يسلك وفق منطق الأخلاق ووفق منطق الخير والفضيلة. لكن علم نفس وخاصة مع فرويد يؤكد أن الإنسان يميل إلى العنف، وهذا ما يكشف كذلك واقع الإنسان وتاريخه، حيث العنف يحضر في كل زمان  وكل مكان بأشكال متعددة ومختلفة يصعب حصرها وعدها. إن هذه المعطيات تدفعنا إلى التساؤل عن حقيقة العنف ، وعن علاقته بالإنسان وبالتاريخ، وعن أساسه وأصله، وبشكل خاص إن كان العنف يجد أصله في الطبيعة الإنسانية أم في معطى خارج الطبيعة الإنسانية، وإن كان العنف ظاهرة ملازمة للتاريخ البشري أم أنه مجرد ظاهرة عابرة وزائلة بزوال أسبابها. واستنادا إلى ما سبق يمكن بسط التساؤلات والإشكالات التالية:

ما العنف وما التاريخ؟ وما طبيعة العلاقة القائمة بين العنف والتاريخ؟ وما هو أصل العنف؟ هل العنف ظاهرة ملازمة للتاريخ أم أنه ظاهرة عابرة وزائلة؟ وهل يجد العنف أصله في الطبيعة الإنسانية أم معطى خارج الطبيعة الإنسانية؟

موقف طوماس هوبس: العنف مرتبط بطبيعة الإنسان

في كتابه اللفيتان (التنين) يؤكد طوماس هوبز أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية هي مصدر النزاع، وهذه الأسباب مرتبطة بالطبيعة الإنسانية، وهذه الأسباب هي: التنافس، الحذر والكبرياء. أما التنافس فيكون من أجل السيادة على الآخرين وتحقيق المصالح. أما الحذر فيكون من أجل الحفاظ على أمنهم وسلامتهم. أما بالنسبة للكبرياء فغايته سمعة الفرد، وهنا قد يكون العنف بسبب أشياء تافهة كابتسامة أو رأي مخالف، أو إشارة دالة على احتقار الشخص أو احتقار أقربائه أو وطنه

ومن خلال ما سبق يتضح أن  طوماس هوبز يرى بأن العنف مرتبط بالطبيعة البشرية. ولذلك فهو يؤكد أن الحرب تبقى أمرا محتملا، كما أن حالة السلم لا تعني غياب الحرب، فخلف السلم توجد دائما إرادة متطلعة إلى الحرب، وهنا يقول هوبس: “كما أن الطقس الرديء لا يفضي بالضرورة إلى سقوط المطر الشديد، فإن طبيعة الحرب لا تعني لا تعني القتال الفعلي في كل الأحوال، بل قد تعني أيضا المضي قدما في اتجاه الحرب طالما لم نكن على يقين بحدوث العكس“.

موقف الفلسفة الماركسية: العنف وليد الصراع الطبقي

يرى كارل ماركس والفلسفة الماركسية عموما، أن الصراع هو محرك التاريخ، وأن تاريخ  المجتمعات، منذ المجتمع البدائي إلى المجتمع الرأسمالي، ما هو إلا تاريخ الصراع بين الطبقات، صراع بين المضطهدين والمضطهدون الذين كانوا دائما في حالة صراع ومواجهة وتعارض دائم، والذين أقاموا حروبا لا تتوقف، سواء كانت معلنة أو خفية. ويتجلى ذلك الصراع في الصراع بين الإنسان الحر والعبد، والسيد الإقطاعي والقين، وسيد الحرفة والمنتج العادي. ويرى ماركس أن هذا الصراع هو محرك التاريخ وهو ما يؤدي إلى تغييره تغييرا جذريا.

وتعتبر المرحلة الرأسمالية هي أشد مراحل الصراع الطبقي، حيث  أصبح المجتمع منقسما إلى معسكرين متعاديين، أي طبقتين متعارضتين تعارضا كليا هما البورجوازين والبروليتارية.

خلاصة تركيبية

يتضح من خلال ما سبق أن العلاقة بين العنف والتاريخ علاقة إشكالية، قادتنا إلى البحث في طبيعة العنف وأصله، والبحث في الكيفية التي يتولد بها العنف في التاريخ. وما يمكن استنتاجه بعد اشتغالنا على هذا الإشكالات، هو أن العنف يجد أصله من جهة أولى في الطبيعة البشرية، ومن جهة ثانية فهو يجد أصله فيما هو ثقافي سواء تعلق الأمر بما هو اقتصادي أو اجتماعي أو سياسي... لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل يمكن أن يكون العنف مشروعا؟

المحور الثالث: العنف والمشروعية

التأطير الإشكالي:

بخصوص مفهوم العنف، تطرح مجموعة من الإشكالات الفلسفية، من بينها الإشكال المرتبط بمشروعية العنف، وهو إشكال يبحث في مدى مشروعية العنف، وإن كان العنف مشروعا أم أنه يبق غير مشروع.وهنا يمكن أن نتساءل:

هل يمكن الإقرار بمشروعية العنف؟ وبتعبير آخر هو يمكن أن يكون عنف ما عنفا مشروعا أم أن أم أنه لا وجود لعنف مشروع؟ وإن كان العنف مشروعا فمن أي منطلق، هل يجد مشروعيته في ما هو قانوني أم في ما هو أخلاقي أم في غير ذلك؟

موقف ماكس فيبر: المشروعية القانونية للعنف

يرى عالم الاجتماع ماكس فيبر أن هناك ارتباطا بين الدولة والعنف، وأن الدولة يحق لها ممارسة العنف المشروع، أي العنف الذي لا يتنافى مع القانون. كما يرى أن ممارسة الدولة للعنف لا يتناقض مع الطابع العقلاني والقانوني لها. ويستشهد ماكس فيبر بقول أحد السياسيين الروس وهو تروتسكي، والذي قال: "كل دولة تقوم على العنف"، مؤكدا من خلال ذلك على العلاقة الحميمية  القائمة بين الدولة والعنف، وعلى أن العنف شرط أساسي وضروري لاستمرار الدولة، وهو ما يؤكده تاريخ التجمعات السياسية القديمة، وكذلك الدول المعاصرة. لكن ماكس فيبر يؤكد أن الدولة هي التي تحتكر لنفسها استعمال العنف المادي، بمعنى أنها الجهة الوحيدة التي يحق لها ذلك.

موقف المهاتما غاندي: لا مشروعية العنف

على خلاف مجموعة من التصورات التي تدعوا إلى العنف، أو التي تعتبره أمرا مشروعا، نجد رجل السياسة والزعيم الروحي الهندي الماهاتما غاندي يؤكد على ضرورة نبذ العنف ومواجهته. ويرى غاندي أن العنف هو القانون الذي يحكم النوع الحيواني ، أما النوع الإنساني فيحكمه قانون اللاعنف. لكن غاندي في دعوته إلى اللاعنف لا يدعوا إلى التخلي عن الصراع ضد الشر، وإنما مناهضة الشر ولكن بطريقة يغيب فيها العنف والقصاص (مبادلة العنف بالعنف)، أي عن طريق اللاعنف.

ويمكن أن نقدم كمثال عن مواجهة العنف من خلال اللاعنف، مثال العصيان المدني، وهو طريقة في النضال تقوم على فكرة المواجهة من دون عنف، والمثال ما قامت به الهند، حين قاطعت الملح الذي كانت جبايته مصدرا هاما لخزانة السلطات الاستعمارية البريطانية، وكان ذلك بأمر من غاندي كحل لمواجهة الاستعمار.

خلاصة تركيبية.

كخلاصة لما سبق، أن هناك اختلاف بين الفلاسفة والمفكرين بخصوص مدى مشروعية ممارسة العنف، فهناك من أكد على مشروعية ممارسة العنف المادي الذي لا يتناقض مع القانون، وهناك من أكد على مشروعية ممارسة العنف من طرف الطبقة البرولترالية لتتخلص من أغلالها ومن احتكار وسيطرة الطبقة البرجوازية، والحديث هنا عن الموقف الماركسي. بينما نجد أن هناك من انتقد العنف جملة وتفصيلا، معتبرا إياه خاصية من خصائص النوع الحيواني.

تعليقات