درس الواجب والمجتمع - مفهوم الواجب
يرتبط مفهوم المجتمع بمفهوم الواجب، فالحديث
عن المجتمع هو حديث عن مجموعة من النظم الثقافية، وهذه الأخيرة تضم من بين ما تضمه
مجموعة من الواجبات، إلا أن الحديث عن المجتمع هو حديث عن ثقافات متعدد ومختلفة،
ما يجعلنا نتساءل عن إن كان الواجب يتسم بالكونية أم بالنسبية، فهل الواجب نسبي أم
كوني؟ وهل الواجبات الأخلاقية تقتصر على
الفرد أم يؤطرها المجتمع؟ و هل الخضوع للواجب واحترامه مرتبط بالذات الفردية أم
بالمجتمع ككل؟
1) تصور إميل دوركايم.
إذا انطلقنا من قول دوركايم "فضميرنا
الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع ولا يعبر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا فإنما يردد
صوت المجتمع فينا"، سيتبين لنا جليا كيف أن هذا التصور السوسيولوجي لإميل
دوركايم يذهب إلى أن المجتمع هو مصدر ومحدد الوعي الأخلاقي، الذي يوجه السلوك
الإنساني داخل المجتمع، كما أن الوعي الأخلاقي لا يرتبط بالذات الفردية فقط ،
وإنما بجميع الأفراد، فالوعي الأخلاقي ليس وعي الفرد وإنما وعي المجتمع، وذلك ما
يطلق عليه دوركايم "الوعي الجمعي". ومفاد ذلك القول أن لكل مجتمع ضمير
جمعي يحدد ويوجه سلوكات الأفراد المنتمين إليه. من هنا يكون الواجب عام ونسبي،
عاما من حيث شموليته لجميع أفراد المجتمع، ونسبي من حيث أن لكل مجتمع منظومته
الثقافية التي تحدد الواجبات الأخلاقية.
نخلص من خلال تصور إميل دوركايم لعلاقة
الواجب الأخلاقي بالمجتمع، إلى أن الواجب الأخلاقي ينشأ من صميم الحياة
الإجتماعية، لهذا لا يمكن أن يستقيم الحديث عن الواجب عند دوركايم إلا بوجود
المجتمع.
يستمد تصور دوركايم أهميته من خلال الإحتكام
إلى الواقع في تحديد الأخلاق، إلا أن القول بكون كل مجتمع له ضمير جمعي خاص به،
يجعل الأخلاق نسبية ومنغلقة.
يرى عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم أن المجتمع هو المصدر
الأساسي للواجب الأخلاقي. فهو يعتبر أن الضمير الأخلاقي ليس نابعًا من الفرد
ذاته، وإنما هو انعكاس لصوت المجتمع في داخله. وقد عبّر
عن ذلك بقوله: "ضميرنا
الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع ولا يعبر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا فإنما يردد
صوت المجتمع فينا". وفق هذا التصور، فإن الأخلاق ليست مسألة فردية، بل هي تعبير عن ما يسمى بـ "الضمير الجمعي"، أي وعي مشترك بين جميع أفراد
المجتمع يحدد لهم ما هو مقبول وما هو مرفوض.
من هنا، فإن الواجب الأخلاقي عند دوركايم يتميز بطابع عام لأنه يشمل
كل أفراد المجتمع، وبطابع نسبي لأنه يختلف من مجتمع لآخر بحسب منظومته
الثقافية الخاصة. لذلك، لا يمكن الحديث عن واجب أخلاقي خارج إطار المجتمع، لأن
الحياة الاجتماعية هي التي تُنتجه وتُوجه سلوك الأفراد وفق معاييرها.
ومع أن تصور دوركايم يستمد قوته من واقعيته ومن
ملاحظاته حول تأثير المجتمع في تشكيل سلوك الأفراد، إلا أنه يُؤخذ عليه أنه
يجعل الأخلاق نسبية ومنغلقة، حيث أن كل مجتمع يملك أخلاقه الخاصة التي قد
تتعارض مع أخلاق مجتمعات أخرى، مما يُصعب الحديث عن أخلاق إنسانية موحدة أو كونية
2)
تصور هينري برغسون
لا يختلف برغسون مع دوركايم في التأكيد على
أهمية المجتمع في تشكيل الواجب الأخلاقي للأفراد، حيث يقول: "نتلقى ونحن
صغار، من آبائنا ومعلمينا مجموعة من الأوامر والنواهي..." من هنا يكون الواجب
الأخلاقي مرتبطا بالمؤسسات الإجتماعية التي تقوم بدور التنشئة الإجتماعية. لكن
برغسون يرى أن تلك الأخلاق ليست إلا أخلاقا منغلقة، حيث أنها مرتبطة بمجتمع بعينه،
لذلك يدعو إلى ما يسميه بالأخلاق المنفتحة، أي منفتحة على الأخلاق الإنسانية، من
خلال الإنعتاق من تلك السلطة الأخلاقية المتعالية، وتكريس الواجب الأخلاقي الكوني
بدلا منها، الذي يتعدى ويتجاوز الأخلاق المنغلقة التي يكرسها المجتمع، لأن هذا
الأخير يرسخ أخلاقا تتماشى والأفراد المكونين للمجتمع الواحد، والأخلاق الكونية
تنفتح على الشمولي وعلى الإنسان ككل بصرف النظر عن انتماءه المجتمعي.
يكتسي تصور برغسون أهميته من خلال دعوته إلى
تأسيس أخلاق منفحة على الإنسان ككل، وكونية تعم كل المجتمعات، إلا أنه يمكن أن
تساءل: ألا يعد هذا التصور ضربا في الخصوصية الثقافية لكل مجتمع؟
من جهة أخرى، يتفق الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون مع دوركايم في أن
المجتمع يلعب دورًا أساسيًا في تنشئة الأفراد أخلاقيًا منذ الطفولة، من
خلال الأسرة، والمدرسة، والمؤسسات الاجتماعية المختلفة. ويؤكد أن الأوامر والنواهي
التي نتلقاها ونحن صغار تُشكل جزءًا من منظومة أخلاقية يُراد منها ضبط سلوك
الأفراد داخل المجتمع.
لكن برغسون يُميز بين نوعين من الأخلاق: الأخلاق
المنغلقة، وهي تلك التي تُفرض على الفرد داخل مجتمع معين، والأخلاق المنفتحة،
وهي أخلاق كونية تتجاوز حدود المجتمع وتخاطب الإنسان ككائن عاقل بغض النظر عن
انتمائه الاجتماعي أو الثقافي. لذلك، يدعو برغسون إلى التحرر من "السلطة
الأخلاقية المتعالية" التي يفرضها المجتمع، والانتقال نحو تبني واجب أخلاقي إنساني
كوني، يُخاطب ضمير الإنسان باعتباره إنسانًا قبل أن يكون فردًا في مجتمع معين.
تكمن أهمية تصور برغسون في دعوته إلى أخلاق تنفتح على الإنسان ككل،
وتدعو إلى احترام كرامته وإنسانيته بعيدًا عن القيود الثقافية أو الاجتماعية
الضيقة. غير أن هذا التصور قد يُنتقد من حيث كونه يُعرض الخصوصيات الثقافية
للمجتمعات إلى التهميش أو الإلغاء، في سبيل تحقيق تصور مثالي عن الأخلاق الكونية.