محور الحرية والإرادة - تحليل سؤال إشكالي مفتوح

مفهوم الحرية - المحور الثاني الحرية والإرادة

يُعدّ الإنسان كائنًا أخلاقيًا بامتياز، إذ يتميّز عن غيره من الكائنات بقدرته على التمييز بين الخير والشر، وبامتلاكه لإرادةٍ حرّة تمكّنه من اتخاذ قراراته وتحمّل مسؤولياته. ومن هنا، يبرز المفهوم الفلسفي للحرية باعتباره حجر الزاوية في بناء الفعل الأخلاقي، إذ لا يمكن الحديث عن الأخلاق دون افتراض قدرة الإنسان على الاختيار الواعي والمسؤول.
غير أن هذا التصور يثير إشكالات جوهرية: فهل الإنسان حرّ بالفعل في أفعاله أم أنه خاضع لجملة من الإكراهات النفسية، الاجتماعية أو حتى الطبيعية؟ وما العلاقة بين الحرية والإرادة: هل الإرادة شرط ضروري للحرية أم أن الإرادة نفسها قد تكون خاضعة لقوى خارجية تحدّ من حريتنا؟
إنّ هذه التساؤلات تجعل من العلاقة بين الحرية والإرادة محورًا إشكاليًا يستدعي التحليل والتفكير، في أفق فهم أعمق للمسؤولية الأخلاقية وحدودها.

تحليل سؤال إشكالي مفتوح: هل تسمح الإرادة بحرية مطلقة؟

لحظة الفهم (التقديم)

يتحدد الوجود الإنساني بكونه وجود أخلاقي، تحكمه القيم الأخلاقي. والحديث عن القيم الأخلاقية يدفعنا إلى الحديث عن مفهوم الحرية الذي يأتي في مقابل مفهوم الحتمية. والحديث عن مفهوم الحرية يدفعنا إلى الحديث عن علاقة الحرية بالإرادة، فهذين المفهومين مفهومان متلازمان. والحديث عن علاقة الحرية بالإرادة يدفعنا إلى البحث في إمكانية أن تقود الإرادة إلى حرية مطلقة، من عد إمكانية ذلك. أي إن كان الإنسان يستطيع التصرف وفق حرية مطلقة انطلاقا من إرادته، أم أنه لا يستطيع تجاوز الإكراهات.
 إذن، ما الحرية؟ وما الإرادة؟ وهل تسمح الإرادة بحرية مطلقة للإنسان، أم أن الإنسان لا يستطيع تجاوز الإشراطات والإكراهات سواء كانت اجتماعية أو نفسية؟ بمعنى آخر هل للإنسان القدرة على السلوك والتصرف بحرية أم لا؟ وإن كان يستطيع ذلك، فهل يمكنه السلوك والتصرف بحرية مطلقة أم نسبية فقط؟

لحظة التحليل

قبل الإجابة لابد أولا من تحليل هذا الإشكال الفلسفي، المتعلق بعلاقة الإرادة بالحرية. من حيث المضمون فالسؤال الإشكالي يساءلنا عن الإرادة، وبالضبط إن كانت الإرادة تسمح بالحرية المطلقة. بمعنى آخر، إن كان الإنسان يستطيع التصرف بحرية مطلقة نظرا لما يتميز به من إرادة ، متجاوزا كل الإكراهات والإشراطات والضرورات، أم أن الإنسان لا يستطيع بلوغ الحرية، وحتى إن استطاع ذلك فلن يستطيع بلوغ حرية مطلقة وإن حرية نسبية فقط. من هنا يتبين لنا أنه لابد أولا من تفكيك بينية السؤال المفاهيمية. 
يتضمن السؤال مفهومين أساسين وهما الحرية والإرادة. وتدل الحرية في دلالتها العامة على قدرة الإنسان على الفعل أو الإمتناع عنه، بعيدا عن كل إكراه كيفما كان مصدره، بمعنى آخر فالحرية هي حالة الكائن الذي لا يعاني إكراها. أما الإرادة فهي القدرة على الإختيار والتصرف وفق ما يمليه تفكير الفرد. ويظهر حسب السؤال الإشكالي أن مفهوم الحرية مرتبطا بمفهوم الإرادة، ولا يمكن تصور حرية بدون إرادة. بعد تفكيك السؤال مضمونا ومفاهيمية يمكن أن نبين كيف أن الإرادة يمكن أن تمكن الإنسان من السلوك بحرية.
يرى ديكارت وهو فيلسوف فرنسي، أن الإنسان كائن حر في اختياراته، وأن هذه الحرية تقوم على الإرادة. فالإرادة حسب ديكارت لا تخضع لأي إكراه خارجي، كما تعد أكمل وأعظم ما يمتلك الإنسان لأنها تمنحه القدرة على فعل الشيء أو الإمتناع عن فعله انطلاقا من معرفة مسبقة بالفعل وبنتائجه، فهي التي تخرجه من وضعية اللامبالاة وتدفعه إلى الإنخراط في مجال الفعل والمعرفة والإختيار الحر. وفي هذا السياق يميز ديكارت بين حرية سلبية تتجلى في اللامبالاة، وبين حرية إيجابية تتمثل في القدرة على التصور والحكم والتحرر. 
خلاصة القول، أن الإنسان قادر على السلوك والتصرف بحرية، انطلاقا من ما يتميز به من إرادة. لكن ألا يمكن أن يكون القول بحرية الإنسان انطلاقا من إرادته قولا خاطئا يجهل ما يحكم الإنسان من حتميات وضرورات؟

لحظة المناقشة

لا يمكن أن ننكر ان الحرية قيمة إنسانية، تميزه عن عالم الطبيعة الذي هو عالم الحتميات والضرورات والإكراهات، من هنا كان ذلك التأكيد على كون الحرية ماهية الإنسان. ولعل أبرز من مثلوا هذا الموقف هو الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، الذي نصب نفسه عدوا لدعاة الجبرية والحتمية. فالإنسان حسب وجودية سارتر يشكل ذاته وهويته ويحددها في ضوء ما يختاره لنفسه كمشروع في حدود إمكانيته. فيكون الإنسان من هذا المنظور الذي عبرت عنه الوجودية، ليس فقط كما يتصور ذاته فحسب، بل كما يريد أن يكون. وبهذا يكون سارتر مدافعا عن الموقف الذي يرى الإنسان حر من خلال إرادته في أن يكون ما يريد. 
وإذا أردنا مقاربة مفهوما الإرادة والحرية من منظور أخلاقي، فلابد من استحضار الفيلسوف الالماني كانط. فكانط يرى أن المجال الذي تمارس فيه الإرادة الحرة فعلها هو مجال الأخلاق. ذلك أن الإنسان يستطيع ككائن عاقل أن يعتمد على إرادته الحرة في وضع القواعد العقلية للفعل الإنساني. وعندما يخضع الإنسان لهذه القواعد فإنه يمتثل لإرادته ويمارس حريته. 
إلا أن هذا القول لم يلقى ترحيبا من طرف بعض الفلاسفة، ونذكر هنا الفيلسوف الألماني نيتشه، الذي ذهب إلى انتقاد الأخلاق الكانطية، باعتبارها اخلاق تقصي ما هو حسي وغريزي في الإنسان، وبالتالي فهي تقصي ما هو إنساني في الإنسان. لذلك أكد نيتشه على أن الإرادة الحرة هي إرادة الحياة التي يحياها الفرد كام يريد وكما يشاء، بعيدا عن كل حتمية أخلاقية كانت أو اجتماعية. ورغم كل ذاك فهناك من ينفي خاصية الحرية والإرادة عن الإنسان، حيث ان أن الإنسان مثله مثل باقي الكائنات الأخرى يخضع للعلل الخارجية، التي تحدد وجوده وفعله.

لحظة التركيب

هكذا يتبين لنا أن الحرية ترتبط بالإرادة، وأن الإرادة تسمح للإنسان بتجاوز المحددات الإكراهات، سواء كانت اجتماعية او اقتصادية أو طبيعية، كما تبين لنا كيف أن الإنسان انطلاقا من إرادته يستطيع أن يحيا حياته كما يشاء، وأيضا أن يضع القواعد الإخلاقية التي تنظم حياته الإجتماعية. إلا أن هناك من عارض فكرة حرية الإنسان، وبالتالي فكرة الخضوع للإرادة أيضا. من هنا يظهر لنا كيف أن مفهوم الحرية وعلاقته بمفهوم الإرادة كان محط مقاربات فلسفية متعددة، حاولت الكشف عن ما هو باطن، والإجابة عن ما هو إشكالي، فلا يمكن البحث في المجال الأخلاقي دون البحث في قضية الحرية.
تعليقات