أولا: دلالة مفهومي الحرية والضرورة
نجد في معجم جميل صليبا المعنى التالي للحرية: الحرية خاصية الموجود الخالص من القيود، العامل بإرادته أو طبيعته... وإذا كانت الحرية مضادة للحتمية دلت على حرية الاختيار، وهي القول إن فعل الإنسان متولد من إرادته
إذن فالحرية حالة الكائن الذي لا يعاني إكراها، والذي يتصرف وفقا لمشيئته وإرادته وطبيعته.
لكن يجب التمييز بين دلالة مفهوم الحرية أنطولوجيا (وجوديا)، وسياسيا وأخلاقيا. فالحرية بمعناها الأنطولوجي هي غياب كل إكراه خارجي، أي قدرة الإرادة على الفعل، وتجاوز الضرورات، ولا يحد الحرية بهذا المعنى إلا غياب القدرة على الفعل. لكن في معناها السياسي تدل على التصرف والسلوك وفق ما يسمح به القانون/ وبالتالي تفيد الحرية فعل كل ما لا يمنعه القانون، فهي مرادف للحرية المدنية. أما في معناها الأخلاقي، فهي القدرة على اختيار فعل الخير بدل فعل الشر دون إكراه خارجي.
أما الضرورة فتفيد الخضوع وغياب الحرية في الفعل، وبالتالي فهي تأتي في مقابل مفهوم الحرية، بحيث تدل على الإكراه، والحتميات والإشراطات التي تجعل من سلوك الشخص سلوكا مفروضا، غير نابع من اختياره أو إرادته. لكن الحتمية تختلف عن الضرورة، فالحتمية لا يمكن أن نتجاوزها، عكس الضرورة التي يمكن تجاوزها.
وتأخذ الضرورات عدة أشكال، فهناك الضرورة الطبيعة وهناك الضرورة الاجتماعية والضرورة السيكولوجية.
التأطير الإشكالي لمحور الشخص بين الضرورة والحرية
إن الحديث عن الوضع البشري حديث عن مجموعة من السمات والشروط والمحددات التي تسم وتحدد وجود الإنسان، ولهذا نقول إن الوضع البشري وضع معقد ومركب. والإنسان وفق هذا المنظور محكوم ومقيد وخاضع للضرورات. لكن هذا القول يجعل الإنسان في نفس مرتبة باقي الموجودات الأخرى وإن اختلفت معه في شكل الضرورات التي تحكمها، وهذا ما يدفعنا إلى البحث في إشكال فلسفي متعلق بحرية الشخص، وإن كان الشخص من خلال ما له وعي ومن قدرة على التفكير على السلوك بحرية، وبتعبير آخر إن كان الشخص سيد نفسه وسيد قراراته واختياراته، أم أنه على العكس من ذلك خاضع للضرورات والحتميات.
بناء على ما سبق يمكن طرح التساؤلات والإشكالات الفلسفية التالية:
هل الشخص حر أم خاضع للضرورة؟ إن كان حرا ففيما تتجلى حريته وهل حريته تلك حرية مطلقة أم مجرد حرية نسبية ومشروطة؟ وإن كان خاضعا للضرورة فما طبيعة تلك الضرورة، هل هي ضرورة طبيعية أم اجتماعية؟
ثالثا: مواقف وتصورات فلسفية
1) باروخ سبينوزا: "الحرية جهل بالأسباب"
يتبنى الفيلسوف الهولندي صاحب مؤلف رسالة في اللاهوت والسياسة أطروحة مفادها أنه لا وجود لحرية إنسانية تجعل من الشخص كائنا أسمى من الطبيعة. وما شعورنا بالحرية إلا وهم ناشئ عن تخيلنا بأننا أحرار، وعن جهلنا بالأسباب الحقيقة التي تسيرنا.
ولتأكيد أطروحته اعتمد باروخ اسبينوزا مجموعة من الآليات الحجاجية، من بينها حجة التمثيل، حيث شبه الإنسان بالحجر الساقط، هذا الحجر يتحرك بفعل سبب أو قوة خارجية "وحين يتوقف الفعل الناتج عن السبب الخارجي، فإن قطعة الحجر ستواصل تحركها بالضرورة، واستمرارها في الحركة أمر مفروض من الخارج.." فلو كان لقطع الحجر تلك الوعي لظنت أنها حرة في حركتها وأن هذه الحركة نابعة من مجهودها الذاتي وليس بفعل قوة خارجية. ليصل اسبينوزا إلى أن تلك هي الحرية التي يتبجح بها الإنسان، لكنها تقوم فقط على واقعة أن للناس وعي بشهواتهم، لكنهم يجهلون الأسباب التي تحددهم حتميا.
إضافة إلى ذلك اعتمد اسبينوزا مجموعة الأمثلة من حياة الناس، كمثال الطفل الذي يعتقد انه يشتهي الحليب بحرية وإرادة، بينما لا يشتهيه إلى بدافع غريزة الجوع. ومثال الشاب الحانق الذي يرغب في الانتقام من عدو له والجبان الذي يلوذ بالفرار من خطر يهدد حياته، فهما يعتقدان أنهما يقومان بذلك بمحض إرادتهما، ما يشعرهما بأنهما أحرار، لكن الأمر عكس ذلك، فالانتقام والهرب من الخطر، هو في واقع الأمر استجابة لدافع خارج إرادة الشخص، ولا مجال للحديث هنا عن حرية ذاتية بعيدة عن كل إكراه كيفما كان مصدره.
2) جان بول سارتر: "الإنسان مشروع"
إذا كان اسبينوزا ومجموعة من علماء الإنسان، قد ذهبوا إلى أن الشخص خاضع للضرورة، سواء كانت تلك الضرورة طبيعية أو اجتماعية أو سيكولوجية، فإن الفيلسوف الوجودي المعاصر الفرنسي جان بول سارتر يذهب إلى أن الإنسان حر. وينطلق في موقفه هذا من مبدأ وهو الإقرار بأن الوجود يسبق الماهية، بمعنى أن الإنسان يولد أولا ويلاقي ذاته ويبرز إلى العالم، ثم يحدد بعد ذلك ما سيكون.
إن الإنسان حسب سارتر غير قابل للتعريف عندما يكون لا شيء، وسيكون ما سيصنعه بنفسه فيما بعد. إن الإنسان في نظر سارتر يشكل ذاته وهويته ويحددها في ضوء ما يختاره لنفسه كمشروع في حدود إمكانيته، وهنا نفهم لماذا يعتبر سارتر الإنسان مشروعا.
3) إيمانويل مونييه: حرية الشخص حرية مشروطة
يؤكد الفيلسوف الفرنسي المعاصر رائد الاتجاه الشخصاني إيمانويل مونييه أن حرية الإنسان ككل ما هي إلا حرية شخص، وأن الحرية ملازمة للوضع الواقعي ومحصورة في نطاق حدوده، وبهذا فالحرية ليست حرية مطلقة.
لذلك وجب أولا القبول بالظروف الأولية، لأنه ليس كل شيء ممكنا، وبعد ذلك البحث عن التحرر من خلال الاختيار والتضحية، وهنا يتضح كيف أن الحرية مرتبطة بالحواجز، فلا يمكن حسب مونييه الحديث عن حرية دون وجود حواجز، حيث يقول: هذه الحدود تشكل قوة عندما لا تكون ضيقة جدا. ولزيادة الإيضاح يمكن الوقف عند بعض المفاهيم المركزية في فلسفة مونييه والتي من بينها نجد مفهوما التحرر والشخصنة. أما بخصوص التحرر، فيعني أن الحرية ليست معطاة إنما هي فعالية، وأما بخصوص الشخصنة فهي عملية يقوم بها الكائن البشري حتى يصل إلى مرحلة الإنسان بالانفتاح على المثل العليا وعلى المجتمع وعلى العالم.
إذن فمونييه يرى أن الإنسان ليس حرا من حيث ماهيته، فالحرية فعالية، وليست ومعطاة. ولذلك فالإنسان هو من يحرر ذاته، وفق الشروط الواقعية. وهكذا فالحرية ليست بالمستحيلة ولا هي ممكنة دائما.