منهجية تحليل النص الفلسفي
يقتضي تحليل النص الفلسفي، منهجية للاشتغال ولتنظيم العمل والمعرفة الفلسفية. وعلى العموم، فتحليل النص الفلسفي يقتضي الاشتغال وفق أربع لحظات وهي: لحظة الفهم، لحظة التحليل، لحظة المناقشة، لحظة التركيب. مع العلم أن هذه اللحظات مترابطة من حيث الموضوع الإشكالي. وهذه عناصر كل لحظة:
اللحظة (القدرات
والمهارات)
|
المضمون
|
سلم التنقيط
|
الفهم
|
الطرح الإشكالي للموضوع من خلال:
ü
تحديد موضوع النص
ü
صياغة إشكاله وأسئلته الأساسية الموجهة للتحليل والمناقشة.
|
04
|
التحليل
|
ü
تحديد أطروحة النص وشرحها.
ü
تحديد مفاهيم النص وبيان العلاقات التي تربط بينها
ü
تحليل الحجاج المعتمد في الدفاع عن أطروحة النص
|
05
|
المناقشة
|
ü
التساؤل حول أهمية الأطروحة بإبراز قيمتها وحدودها.
ü
فتح إمكانات أخرى للتفكير في الإشكال الذي يثيره النص
|
05
|
التركيب
|
ü
استخلاص نتائج التحليل والمناقشة
ü
تقديم راي مدعم.
|
03
|
|
الجوانب الشكلية
تماسك العرض وسلامة اللغة ووضوح الخط
|
03
|
نموذج تحليل ومناقشة نص فلسفي
النص
لننتقل
إلى الأشياء المخلوقة و المحددة بعلل خارجية، سواء في وجودها أو في فعلها، و
لنتصور ببساطة و وضوح المثال التالي: حجر يتدحرج بفعل سبب خارجي، أي بقدر معين من
الحركة، ثم بعد ذلك توقفت تلك الحركة، في حين واصل الحجر تدحرجه بالضرورة. إن
استمرار الحجر في التحرك هو فعل إكراه، ليس لكونه ضروريا، بل لكونه مدفوعا بعلة
خارجية. و ما ينطبق على الحجر ينطبق أيضا على أي شيء آخر، مهما كان التعقيد الذي
قد يبدو لكم أنه يتصف به، و مهما تكن الاستعدادات العديدة التي قد يكون حائزا
عليها، و ذلك لأن أي شيء كيفما كان لا بد و أنه محدد بعلة خارجية في وجوده و في فعله.
تصوروا
الآن –إن شئتم- أن ذلك الحجر أثناء تدحرجه، قادر على التفكير و يعرف أنه يبذل جهدا
مادام مستمرا في حركته. ففي هذه الحالة سيعتقد ذلك الحجر أنه حر و أن لديه إرادة
في التحرك، نظرا لأنه لا يعي سوى الجهد الذي يبذله، و لا يغفل عنه. إن هذا المثال
ينطبق تماما على الحرية الإنسانية التي يتفاخر الجميع بامتلاكها، و التي تتلخص في
كون البشر لديهم وعي بشهواتهم، إلا أنهم يجهلون الأسباب التي تتحكم فيهم. فالطفل
الرضيع يعتقد أنه يشتهي الحليب، و الشاب المنفعل يريد أن ينتقم، و إذا كان جبانا
يريد أن يهرب.. كذلك الشأن بالنسبة للثرثار و الشخص المصاب بالهذيان و كل من هو
على هذه الشاكلة، يعتقد أنه يسلك في فعله وفق قرار حر تمليه عليه نفسه، و ليس
لكونه ينساب وراء الإكراه.
أولا: التقديم (الفهم)
يوجد الإنسان ضمن وضع معقد وضع تحكمه مجموعة من الشروط والمحددات
الذاتية والموضوعية تؤطر
وتحدد وجوده سواء كفرد أو كجماعة، وهذا الوضع هو ما نصطلح عليه بالوضع البشري. وقد
تناول البحث الفلسفي مجموعة من الإشكالات ذات الصلة بقضية الوضع البشري، بمن بينها الإشكالات التي يطرحها مفهوم
الشخص . فالشخص بما هو ذات إنسانية مفكرة وعاقلة وواعية وقادرة على
التمييز بين الخير والشر وبين الخطأ والصواب والتي تتحمل مسؤولية أفعالها
واختياراتها أخلاقيا وقانونيا . ومن بين الإشكالات التي يطرحها مفهوم الشخص نجد
إشكال الحرية، فالشخص كائن واع ومفكر وعاقل، لكنه إضافة إلى ذلك كائن طبيعي له
رغبات وشهوات وميولات، كما أنه كائن اجتماعي بحكم أنه فرد داخل مجتمع ينتظم وفق
قواعد ومبادئ ، كما أنه كيان نفسي. وبالتالي يمكن التساؤل عن مدى حريته اتجاه كل
تلك المحددات الطبيعية والاجتماعية والنفسية، وعن مدى قدرته على تجاوزها. ومنه
يمكن أن نتساءل: ما الشخص وما الحرية وما الضرورة؟ هل الشخص حر أم خاضع
للضرورة؟ بتعبير آخر هل الشخص حر في ذاته وأفعاله واختياراته أم أنه ليس حرا؟ وإن
كان الشخص حر فما الذي يجعله كذلك وهل هو حر حرية مطلقة أم حرية نسبية فقط؟ وإذا كان الشخص خاضعا للضرورة فما طبيعتها هل
هي ضرورة طبيعية بيولوجية أم ضرورة اجتماعية ثقافية أم ضرورة سيكولوجيا وهل هو
خاضع لها خضوعا مطلقا أم يمكنه تجاوزها؟
لحظة التحليل
إجابة على التساؤلات المطروحة يدافع النص موضوع التحليل والمناقشة على
أطروحة مضمونها أنه لا وجود لحرية إنسانية وأن القول بالحرية
مجرد وهم ناتج عن الوعي بالفعل وجهل الأسباب التي تدفعنا إلى الفعل.
ومضمون هذا القول أن الإنسان وجميع الكائنات الأخرى هي كائنات خاضة للضرورة ولعلل خارجية تحكم
وجودها وفعلها. وحتى نتبين مضمون الأطروحة وجب علينا الوقف عند المفاهيم الفلسفية
التي تتشكل منها وتحليلها وكشف دلالتها.
تتشكل أطروحة النص من مفهوم الإنسان والذي يشير إلى الكائن
الحي الذي يتميز عن باقي الكائنات الأخرى بالوعي والتفكير واللغة... إضافة إلى
مفهوم الإنسان نجد مفهوم الحرية، والذي يشير إلى استقلال الذات فكرا
وسلوكا، وإلى حالة الكائن الذي لا يعاني إكراها ، والذي يتصرف وفقا لإرادته وهنا
نجد تلازما بين الحرية والإرادة... كما
نجد مفهوم الإكراه والذي يفيد الضرورة وهي سمة ما هو ضروري، وأنها
قد تعني كل إكراه ممارس على رغبات الإنسان وأفعاله. ويتضح من خلال مضمون النص أن
هناك تقابلا وتعارضا بين مفهوم الإكراه ومفهوم الحرية، فالإكراه يعني غياب الحرية
والحرية تعني غياب الإكراه. كما يتضح أن هناك انفصال بين الحرية والإنسان، ذلك أن الإنسان
ليس حرا في وجوده وفعله.
وللدفاع عن موقفه أطروحته وظف صاحب النص مجموعة
من الأساليب الحجاجية البلاغية، إضافة إلى مجموعة الآليات الحجاجية العقلية وذلك من أجل جعل موقه موقفا مقبولا
ولإقناعنا به. من بين الأساليب البلاغية نجد أسلوب التوكيد الذي يتجلي في عبارة
" إن استمرار الحجر..." إضافة إلى أسلوب النفي والذي يتجلى في عبارة :
" ليس لكونه ضروريا". أما بخصوص الآليات الحجاجيى العقلية، فصاحب النص
اعتمد أسلوب المثال، حيث قدم مثالا لحجر يتدحرج، والغاية من هذا
المثال هو أن يوضح كيف أن الأشياء ليست حرة في وجودها وفعلها، فالحجرخاضع في
تدحرجه لعلل خارجية. وقد كانت الغاية من توظيف هذا المثال ليس فقط نفي حرية
الأشياء وإنما نفس حرية جميع المخلوقات بما في ذلك الإنسان. إضافة إلى ذلك نجد
صاحب النص قد وظف مجموعة من الأمثلة من بينها مثال الطفل الرضيع الذي يرغب في
الحليب ومثال الشاب المنفعل الذي يرغب في الانتقام ومثال الجبان الذي يريد الفرار.
فهؤلاء ليسوا أحرا وإنما خاضعين للإكراه. فالطفل الرضيع على سبيل المثال يرغب في
الحليب بدافع الجوع. وقد أكد صاحب النص أن الذي يجعل الإنسان يعتقد أنه حر هو وعيه
بالفعل وجهله بالإسباب التي تدفعه إلى الفعل.
لحظة المناقشة
لأطروحة النص قيمة فكرية وفلسفية لا يستهان بها، فقد كشفت لنا كيف أن
الشخص ليس كائنا حرا في أفعاله واختياراته، كما كشفت لنا ما يحكم الذات من ضرورات
وبشكل خاص الضرورات الطبيعية بحكم أن الإنسان كائن طبيعي. وهذا التصور هو نفسه
تصور الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا، الذي أكد أن الشخص ليس حرا، وأن
ادعاء الحرية ما هو إلا جهل بالأسباب، وفي هذا السياق يقول اسبينوزا: " تلك
هي الحرية الإنسانية التي يتبجح الكل بامتلاكها والتي تقوم فقط في واقعة أن للناس
وعي بشهواتهم، ويجهلون الأسباب التي تحددهم حتميا".
لكن لا يمكن أن نحصر الضرورات التي تحكم الشخص في
الضرورات الطبيعية، فهناك ضرورات أخرى تحكم الإنسان، والمثال على ذلك الضرورات
السيكولوجية والضرورات الاجتماعية. وبالنسبة للضرورات السيكولوجية، فيمكن توضيحها
من خلال ما تحدث عنه عالم النفس سيغموند فرويد. لقد أكد فرويد أن الذات الإنسانية
محكومة بدوافع لاشعورية، هي التي تحكم الفرد وتوجه تصرفات وأفعاله، ومن الأمثلة
على الأفعال التي تحدث بشكل لاشعوري نذكر: الأحلام، فلتات اللسان، زلات القلم...
كما أن طفولة الفرد تتحكم في حياته المستقبلية، وهنا نفهم كيف أن "الطفل أب
الرجل". أما بخصوص الضرورة الاجتماعية فيمكن أن نقف عن تصور عالم الاجتماع
الفرنسي إميل دوركايم، والذي تحدث عن سلطة المجتمع، وكيف أن
الظواهر الاجتماعية تمارس سلطة على الأفراد، وهنا نذكر كمثال: واجبات الفرد كمواطن
أو كزوج... فهذه الواجبات تفرض سلطتها على الفرد ويلزمه بها المجتمع. لكن ألا يمكن
القول أن الشخص يستطيع تجاوز الضرورات والإكراهات، والتحكم في اختياراته ورغباته
نظرا لما يتمتع به من وعي وإرادة؟ وألا
يمكن القول أن نفي الحرية عن الشخص ينفي عنه صفة المسؤولية؟
على خلاف موقف
النص وموقف مجموعة الفلاسفة والفكرين، يؤكد الفيلسوف الفرنسي جان
بول سارتر أن
الإنسان حر في اختياراته. وقد سارتر في بناء هذا الموقف من القول بأسبقية الوجود
عن الماهية، أي أن الشخص يوجد أولا ثم يحدد ما سيكون عليه، إنه مشروع يتحقق بشكل
ذاتي لامتلاكه القدرة على التجاوز والارتماء في المستقبل المفتوح على ما لا نهاية
من الإمكانيات. إن الإنسان في نظر سارتر يشكل ذاته وهويته ويحددها في ضوء ما
يختاره لنفسه كمشروع في حدود إمكانيته. هكذا يكون سارتر قد جعل الشخص مسؤولا عن
ذاته وأفعاله واختياراته على خلاف التصورات السابقة التي جعلته مجرد شخص خاضع.
لحظة التركيب
انطلاقا مما سبق
يضح لنا أن قضية الشخص قضية ذات طابع إشكالي، قضية قادتنا إلى خوض نقاش فلسفي حول
حرية الشخص، وكشف أبعاد تلك الحرية وحدوده. وقد توصلنا من خلال تحليل ومناقشة النص
الفلسفي إلى كون الشخص خاضع لمجموعة من الضرورات، منا الضرورات الطبيعية من حيث
كونه كائنا طبيعيا، ومنها الضرورات الاجتماعية من حيث كونه فرد اجتماعي، ومنها
الضرورات السيكولوجية من حيث كونه بنية نفسية دينامية تتأثر بمحيطها. كما تبين لنا
أن للشخص هامش من الحرية، نظرا لما يتمتع به وعي ومن قدرة على التجاوز. ويمكن أن
نلخص الموقفين في موقف الفيلسوف الفرنسي إيمانويل مونيي، والذي يرى
أن حرية الشخص مشروطة بالوضع الواقعي له، وهي لا تتحقق إلا عند الخروج بالذات من
عزلتها الاتجاه نحو الشخص عبر الانفتاح على الآخرين والتواصل معهم.