درس الوعي الأخلاقي - مفهوم الواجب

درس الوعي الأخلاقي - مفهوم الواجب

يرتبط مفهوم الواجب بمفهوم الوعي الأخلاقي، وهذا الأخير يشير إلى الضمير الأخلاقي الذي يستحضره الإنسان في تصرفاته، فهو "خاصية تسمح للعقل الإنساني أن يصدر أحكاما معيارية عفوية على القيم الأخلاقية لبعض الأفعال الفردية"، لكن هذا الوعي الأخلاقي قد يكون نابعا من الذات الفردية كما قد يكون مبنيا من خلال الوجود الإجتماعي للفرد، من هنا تطرح مجموعة من التساؤلات والإشكالات: ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟ هل مصدره الذات الفردية أم المجتمع؟ بمعنى آخر هل يوجد وجودا فطريا قبليا في الإنسان أم أنه يكتسب انطلاقا من التجربة؟

1) تصور جون جاك روسو 

يؤكد روسو على أطروحة مفادها أن الوعي الأخلاقي يجد مبدأه الأساسي فيما هو فطري وغريزي، فمصدر الوعي الأخلاقي هو إحساس نقدر به الأفعال والأشياء، وهو وحده الذي يميز الإنسان عن الحيوان. وفي ذات السياق يؤكد أن الغريزة هي التي تمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر. إضافة إلى ذلك يميز روسو بين الأفكار والأحاسيس، حيث أن الأفكار مصدرها الخارج في حين أن الأحاسيس مصدرها الباطن، وهي ما يسمح بتقدير الأفكار إصدار الأحكام عليها، فالأحاسيس تشير إلى "حب الذات والخوف من الألم والموت والرغبة في العيش السعيد" وهي ما يساعد الإنسان على العيش مع الآخرين. وفي توضيحه لذلك التمييز بين الأحاسيس والأفكار، يميز روسو بين الخير ومحبته، فمعرفة الخير ليست فطرية، ولكن ما إن يدرك الإنسان الخير بعقله حتى يقوده وعيه إلى حب الخير "وهذا الإحساس هو وحده الفطري"

من هنا يتضح كيف أن روسو يؤسس للوعي الأخلاقي تأسيسا فطريا، وأنه يربط للوعي الأخلاقي بالأحاسيس ويبين أثرها الخلقي على الإنسان، بحيث أن الأحاسيس هي ما يميز الإنسان عن الحيوان.

قيمة التصور: لتصور جون جاك روسو أهميته من حيث تأكيده على خيرية الطبيعة الإنسانية، التي هي أساس الوعي الأخلاقي، وأساس التمييز بين الخير والشر.... وفي ذلك انتقاد للذين يؤكدون على أن طبيعة الطبيعة الإنسانية هي الشر.

1) تصور فريديرك نيتشه: 

عارض الفيلسوف الألماني نيتشه التصورات التي جعلت أساس الوعي الاخلاقي طبيعيا، فهو لا يعتبر الغريزية مصدرا للوعي، بل يؤكد على أنا الوعي الأخلاقي مرتبط بممارسة العنف والقوة، و وبالصراع بين الأسياد والعبيد، وبالعلاقات التبادلية بين الناس، خاصة بين الدائن والمدين، كما ترسخت عبر مظاهر العقاب الجسدي، على شكل واجبات وتصورات أخلاقية. فالمدين في عدم التزامه للدائن يتوجب عليه أن يضع جسده أو حريته أو زوجته رهن إشارة الدائن، كما من حق هذا الأخير أن يمارس عليه العقاب والعنف، ما يجعل الدائن "يشعر في نهاية المطاف بذلك الإحساس الناتج عن تمكنه من احتقار وإهانة مخلوق ما باعتباره شيئا أدنا منه".

إذن، فالوعي الأخلاقي مرتبط بالصراع بين العبيد والأسياد، ومرتبط وبالقوة والعنف، فالواجبات نشأت في أرض لم تخل يوما من "رائحة الدم والعقاب".

قيمة التصور: يستمد تصور نيتشه أهمية من كونه تصور انطلق من الحياة حتى يؤسس للأخلاق والواجبات الأخلاقية تأسيسا نظريا، والحكم على الاشياء انطلاقا من فائدتها ونفعيتها وفي ذلك انتقاد للتصورات الأخلاقية المثالية.

ملاحظة: يمكن استحضار تصورات كل من كانط وإميل دوركايم، فالأول يقول بأن الوعي الأخلاقي مصدره الذات لكن ليس مصدره هو العاطفة وإنما العقل العملي، والثاني قول بأن مصدر الوعي الأخلاقي هو المجتمع، فهو حصيلة الضغوط الإجتماعية التي تتم عبر المؤسسات الإجتماعية كالأسرة والمدرسة...

خلاصة درس الوعي الأخلاقي

يرتبط الوعي الأخلاقي بمفهوم الواجب، ويُطرح حوله إشكال محوري يتعلق بمصدره: هل هو فطري في الإنسان، أم مكتسب من المجتمع؟ في هذا السياق، يرى جان جاك روسو أن الوعي الأخلاقي فطري، نابع من الإحساس الداخلي الذي يجعل الإنسان يميز بين الخير والشر، ويحب الخير بمجرد أن يدركه، مما يدل على أن الطبيعة الإنسانية خيّرة في أصلها. في المقابل، يُقدم نيتشه تصورًا مخالفًا، إذ يعتبر أن الوعي الأخلاقي لا ينبع من الغريزة، بل هو نتيجة لصراعات اجتماعية وتاريخية، خاصة بين الأسياد والعبيد، ويؤسس على منطق القوة والعنف، حيث نشأت الواجبات الأخلاقية في سياق العقاب والمعاناة. كما يمكن التمييز بين تصور كانط الذي يجعل من العقل العملي أساسًا للوعي الأخلاقي بعيدًا عن العاطفة، وتصور دوركايم الذي يرى أن المجتمع، من خلال مؤسساته، هو من يُكوِّن الضمير الأخلاقي للفرد. وهكذا يتبين أن مسألة الوعي الأخلاقي تتأرجح بين كونه إحساسًا فطريًا داخليًا، أو مكتسبًا اجتماعيًا يتبلور من خلال التجربة والعلاقات الإنسانية.

مثال على تصور جون جاك روسو (الوعي الأخلاقي الفطري):

تخيل طفلًا صغيرًا يلعب مع أصدقائه في حديقة عامة. في أحد الألعاب، يسقط طفل آخر ويشعر بالألم، فيتوقف الطفل الأول عن اللعب ليذهب ويساعد صديقه. هنا، لا يحتاج الطفل إلى تعليم أو إرشادات مباشرة ليشعر بالمسؤولية تجاه صديقه. هذا التصرف نابع من إحساس داخلي، هو شعور فطري بالرحمة والرغبة في مساعدة الآخر. طبقًا لتصور روسو، هذا النوع من الوعي الأخلاقي مرتبط بـ "حب الذات" والرغبة في تجنب الألم أو الضرر، وهذه الأحاسيس الفطرية هي التي توجه سلوك الطفل دون أن يحتاج إلى فهم فلسفي معقد للخير والشر.

مثال على تصور فريدريك نيتشه (الوعي الأخلاقي المرتبط بالقوة والصراع):

افترض أن هناك مجتمعًا تقليديًا حيث يُجبر الأشخاص المديونون على تقديم "فدية" للدائنين. في هذا المجتمع، إذا عجز شخص عن دفع دينه، قد يُطلب منه تقديم أحد أفراد عائلته أو نفسه كضمان حتى يتم دفع المبلغ. في هذا السياق، نيتشه يرى أن الوعي الأخلاقي نشأ من ممارسات القهر والعنف بين الأقوياء والضعفاء. الدائن يشعر بالقوة لأنه قادر على فرض العقاب على المدين، بينما يشعر المدين بالذل والإهانة. وفقًا لنيتشه، فإن الأخلاق لم تنشأ من الشعور الطبيعي بالخير، بل من علاقات القوة والهيمنة، حيث كانت الواجبات الأخلاقية تتشكل نتيجة للظروف الاجتماعية المليئة بالصراع والقمع.

مثال على تصور إيمانويل كانط (الوعي الأخلاقي العقلاني):

موقف أخلاقي في العمل: تصور أنك في مكان عملك ووجدت زميلًا لك يخطئ في تقديم تقرير مهم ويحتاج إلى مساعدتك لتصحيحه. على الرغم من أنك قد تكون مشغولًا ولديك مهامك الخاصة، قرارك في مساعدة زميلك يعتمد على حكم عقلاني بأن التصرف الصحيح هو دعم الزملاء في العمل كجزء من الواجب المهني. هنا، طبقًا لـ كانط، فإن الوعي الأخلاقي ليس ناتجًا عن شعور داخلي بالعطف أو الغريزة، بل هو قرار عقلاني يقوم على مبدأ الواجب، حيث تقيم ما هو صحيح بناءً على القيم والمبادئ الأخلاقية التي يفرضها العقل العملي، مثل الصدق، والنزاهة، والمساعدة في العمل الجماعي.

مثال على تصور إميل دوركايم (الوعي الأخلاقي الاجتماعي):

تأثير المؤسسات الاجتماعية: في مجتمع معين، يُشجَع الأطفال على قول "من فضلك" و"شكرًا" كجزء من تعليمهم الاجتماعي. هذه العادات الأخلاقية لا تأتي من داخل الفرد، بل هي نتيجة للتنشئة الاجتماعية التي يتلقاها من الأسرة والمدرسة والمجتمع. حسب دوركايم، الوعي الأخلاقي هو نتاج تفاعل الفرد مع المؤسسات الاجتماعية، التي تفرض عليه القيم الأخلاقية المشتركة. فبمجرد أن يصبح الفرد جزءًا من المجتمع، فإنه يتبنى هذه القيم ويشعر بالواجب تجاهها، مثلما يشعر الطفل بالمسؤولية نحو احترام الآخرين من خلال تعليمه استخدام الكلمات اللطيفة.

تعليقات